الرئيس علي ناصر يكشف دهاليز العلاقة السياسية بين الجنوب ومصر

كريتر سكاي/خاص:


إعداد / د. الخضر عبدالله :  
ثورة 23 والثورة اليمنية

ويواصل الرئيس علي ناصر حديثه حول العلاقة بين اليمن ومصر ودور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر .. وقال مسترسلا في حديثه :"من الطبيعي، في معرض الحديث عن العلاقات اليمنية المصرية، أن لا نحاول تجاوز المعقول، فنسعى في صفحات معدودات إلى اختزال مساحة من الزمن، تعود في قدمها إلى أيام الحضارة الفرعونية والممالك اليمنية القديمة.
التعريف بالعلاقة بين اليمن ومصر، في هذه الزاوية الضيقة، ضرب من المستحيل، فمكان ذلك الأبحاث والدراسات. لكن يكفي أن أقول إنها حاضرة في الأذهان وفي الأعيان على كل شفة ولسان في الحاضر، كما كانت في التاريخ القديم، وستظل كذلك في المستقبل... لكن كل ما أنا معني به هو التاريخ الحديث لهذه العلاقة، بل ربما الأقرب إلى الحداثة من حيث الوقت والزمن. علاقة الثورة المصرية الناصرية 23 يوليو بثورتي اليمن، تتجلى بالمساهمة الأخوية العسكرية التي قدمها عبد الناصر في الدفاع عن الجمهورية، وفي دعم الحركة التحررية الوطنية في اليمن الجنوبي، جملة محاور شكلت عمق العلاقات اليمنية المصرية في الزمن الحاضر، مما أصبح معروفاً وكتبت عنه الكثير من الكتابات والدراسات. ولهذا سأختصر الحديث عن هذه العلاقة بالحقول القريبة جداً، انطلاقاً من الأفكار الناصرية والقومية العربية التي شكلت المشروع النهضوي العربي بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، والتي على أساسها خضنا نضالنا التحرري في اليمن شمالاً وجنوباً حتى الانتصار على الإمامة في الشمال وهزيمة الاستعمار البريطاني في عدن وبقية الجنوب، وخروج قواته من عدن في نفس الشهر الذي صادف خروج القوات المصرية من شمال اليمن عقب هزيمة 5 حزيران، وفقاً للاتفاق الذي تم في الخرطوم بين الملك فيصل آل سعود والرئيس عبد الناصر في أثناء القمة العربية هناك، وهذا الخروج المتزامن من المفارقات التاريخية المثيرة.


المصالح المشتركة

ويستدرك الرئيس ناصر في حديثه حول المصالح المشتركة بين مصر واليمن فقال :" تتحكم اليمن الجنوبية في البوابة الجنوبية للبحر الأحمر عند تلك النقطة الاستراتيجية المهمة التي تسمى «باب المندب»، بينما تتحكم مصر في بوابته الشمالية. وارتبط البلدان منذ القديم بمصالح استراتيجية حيوية وعلاقات تاريخية تستوطن حضن الزمن الواسع، وزاد من عمقها الامتداد الجغرافي، والتأثيرات الحضارية والثقافية، الدينية واللغوية والأهداف القومية المشتركة... تلك العوامل الإنسانية والعضوية الاجتماعية التي كان لها تأثيرها الكبير في الجمع بين البشر.

ويواصل حديثه :" بعد إعلان الاستقلال، في 30 نوفمبر 1967م، اعترفت الجمهورية العربية المتحدة بحكومة الاستقلال التي شكلتها الجبهة القومية برئاسة قحطان محمد الشعبي...
كانت حكومة الجبهة القومية تخشى ألّا يأتي الاعتراف المصري بها، أو أن يأتي متأخراً، نظراً إلى ما كان من خلاف وتوتر بين الجبهة القومية وبعض الأجهزة المصرية.أخبرني الأخ عبد الملك إسماعيل  أنه التقى الرئيس جمال عبد الناصر في منزله بمنشية البكري بالقاهرة في مارس 1968م، ومن ضمن ما قاله له: «إنني بالرغم من خلاف أجهزتي معكم قبيل الاستقلال إلا أنني أخبرت سفيراً عربياً لدولة مجاورة لكم بأنني لا أقبل التهديدات والضغوط بشأن عرقلة عضويتكم في جامعة الدول العربية، وأنتم حققتم الاستقلال في منطقة مهمة جداً ووصلتم إلى الحكم وأعدتم لي الثقة بنفسي بعد خمسة أشهر من النكسة، وجعلتموني أزداد فخراً بحيوية هذه الأمة وبأنها لا تستسلم حتى في ظل الهزائم العسكرية، فكيف يطلب مني عدم مساندتكم تحت تهديدات بقطع الدعم عن مصر والدول التي تضررت من آثار العدوان.

نصائح عبدالناصر للرئيس الشعبي


ويضيف الرئيس ناصر في حديثه :" وفي الوقت نفسه نصح الرئيس جمال عبد الناصر، الرئيس قحطان الشعبي في أول زيارة له لمصر بعد الاستقلال، بضرورة توطيد العلاقات مع موسكو في شتى المجالات مع نصائح موازية بكيفية التعامل معها، ومما شجع على ارتباط مصر الأعمق بالمعسكر الاشتراكي تخلي دول عربية عن الدعم الفوري والضروري لدولة عربية كانت في أشد الحاجة للدعم النزيه وغير المشروط وغير المقيد، ولكن للأسف كان العرض يأتي كالصدقة المشروطة من الدول الغنية للدول الفقيرة. ولهذا يقول (عبد الملك إسماعيل): كان أمام نظام الحكم في عدن طريقٌ واحدٌ، إما النهاية، وإما البحث عن أصدقاء ممكنين ومحتملين من خارج الدول العربية للحصول على وسائل الدعم والثبات.
برغم الأجواء الغائمة التي سادت علاقة الجبهة القومية بمصر، إلا أن برقية عبد الناصر كانت في مقدمة برقيات الاعتراف التي جاءت للقيادة الجديدة في عدن. وكانت برقية عبد الناصر الثانية أو الثالثة من حيث ترتيب الوصول، لا أذكر تماماً، لكن أذكر جيداً أن القيادة في عدن أصرت على إذاعة برقية جمال عبد الناصر قبل كل البرقيات الأخرى، بل لم تذع البرقيات الأخرى قبل وصول برقيته. ومن حسن الحظ أن انتظارها لم يطل... ففي رأي القيادة - وهي على حق - أن إحجام مصر عن الاعتراف بحكومة الجبهة القومية سيلقي ظلالاً من الشك حول هوية الاستقلال الذي نالته، وسيجلب عليها كذلك المتاعب، وربما يؤلب عليها الشارع الذي يحب عبد الناصر إلى حد التقديس، وقد مثلت برقية عبد الناصر قوة ودعماً معنوياً للنظام الجديد الوليد.


خلافات بعض اجهزة مصر مع الجبهة القومية


وتابع الرئيس ناصر  حديثه ويقول :" كان من حسن حظ القيادة، أن عبد الناصر لم يكن ضيق الأفق مثل بعض أجهزته التي قادت حملة مهاترات ضد قيادة الجبهة القومية في السنوات السابقة للاستقلال، حيث أطلقوا عليها صفات مثل: «الخوارج» و«المنشقّين» أو «مجموعة تشومبي» كما كان يطلق عليهم المذيع أحمد سعيد من إذاعة «صوت العرب». لم يقبل التضحية بها بسبب خلاف بعض أجهزته مع قيادة الثورة في الجنوب، فقد كانت له نظرته الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية والمحيط الهندي، وكان يرى في خروج الاستعمار من عدن انتصاراً لسياسته، فلا شك في أنه كان يرى في استقلال اليمن الجنوبي فجراً ساطعاً للرد على هزيمة حزيران، ولهذا حرص على الاعتراف باستقلالنا لأنه كان يرى فيه قوة جديدة مهما كانت صغيرة. وقد أثبتت الأيام بُعد نظره ورؤيته الاستراتيجية، إذ سيكون لليمن الديمقراطية دور في حرب أكتوبر 1973م، حيث تستفيد القوات المصرية من موقعها الاستراتيجي المتحكم في جنوب البحر الأحمر وتسده في وجه السفن الإسرائيلية إلى درجة أن إسرائيل بعدها طالبت بتدويل مضيق باب المندب.
في 22/10/1973م جرى لقاء بين غولدا مائير رئيسة مجلس الوزراء الإسرائيلي وهنري كيسنجير وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، وقالت له: هناك موضوع مهم وخطير يتعلق بباب المندب، حيث توجد مدمرات مصرية تحت قيادة يمنية لإغلاق المضيق أمام السفن الإسرائيلية. ورد كيسنجير إنه لا يعرف شيئاً عن هذا الموضوع، ولكنه سيتحدث مع الروس بشأن ذلك باعتبار عدن صديقة لموسكو، ونصح مائير بأن تتحدث للصحفيين لنشر هذا الموضوع لأنه لا يريد أن يتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية.

 

مراقبة السوفيات للعلاقة المصرية اليمنية


ويواصل الرئيس علي ناصر  قائلا :" كان السوفيات يتابعون العلاقات المصرية اليمنية الجنوبية ويرصدونها عن كثب، ويؤكد ذلك ما أورده الدكتور أوليغ بيريسيبكين عن هذه العلاقة في كتابه «اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي» حيث يقول:
«تعتبر العلاقة بين الجمهورية العربية المتحدة وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية من أهم العلاقات الخارجية للجمهورية الشابة. وإذا بدأنا من القاعدة فمن الضروري الإشارة إلى النفور الدائم لدى الأهالي نحو المصريين. إن المصريين يبغضوننا هذا ما قاله عامل التنظيفات في فندق كريسنت. لدى المصريين الرئيس فقط هو الجيد، يقول نائب أحد الوزراء، من المحتمل أن يكون هذا الشعور هو سبب فشل التجربة المحزنة لليمن الشمالي، المرتبط باليمن الجنوبي بعلاقة قربى عائلية. ومع ذلك كانت صور جمال عبد الناصر معلقة في كل مكان. كانت محطتا الإذاعة والتلفزيون في اليمن الجنوبي تبث يومياً البرامج المصرية».
كان سفير الجمهورية العربية المتحدة في عدن سمير عباسي ضيفاً دائماً على الرئيس اليمني قحطان الشعبي، حسب أقوال الصحف المحلية. وغالباً ما كانت هذه الزيارات متكررة. فقد حدثني مراسل وكالة الإعلام المصري سمير شحاتة بأن سفيرنا والرئيس قحطان الشعبي صديقان حميمان، فهما غالباً ما يلتقيان دون أن يكون دافع بالضرورة إن مكانة الجمهورية العربية المتحدة لدى عدن لا تعود فقط إلى المكانة التي شغلتها على الساحة العربية أو السياسية فقط أو إلى تأثير جمال عبد الناصر في ثورة اليمن الجنوبي، وإنما كان يعود ذلك إلى التأثير الذي تركته مصر في السياسة الحالية للجمهورية الشابة وفي جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.

دور عبدالناصر قبل تحرير عدن


ويتطرف في حديثه ويقول :" سياسة جمال عبد الناصر أدّت دوراً كبيراً في عدن قبل تحرير البلاد من الاستعمار الإنكليزي بزمن طويل. عندما كانت الحملة على الشيوعيين قائمة في عام 1958م في مصر، أثرت هذه الحملة في التيارات اليسارية المتأثرة بالأفكار الشيوعية في البلاد. وكانت النقابات من الذين تأثروا بنيران هذه الحملة، حيث كان كثير من قياداتها من العناصر اليسارية. وأصبحت كلمة شيوعي مرتبطة لزمن طويل بالرعب في البلاد. وكما كان يؤكد محمد ناصر رئيس التحرير السابق لجريدة «الطريق»، فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس الجبهة القومية، كان قحطان الشعبي يحصل على تمويل من الجمهورية العربية المتحدة. وتؤكد هذا مصادر أخرى أيضاً. إذا كان هذا صحيحاً، فهذا يعني أن الجمهورية العربية المتحدة ساعدت الجبهة القومية ومنظمة التحرير. ولكن الرهان الأكبر كان على منظمة التحرير دون أن تغضّ الطرف عن الجبهة القومية تحسباً لكل الاحتمالات. وعلى الغالب فإن تنظيم الجبهة القومية لم يكن مكشوفاً للمصريين، الذين استعصى عليهم الحصول على معلومات كافية عنه من داخل التنظيم على عكس منظمة التحرير التي كانت خاضعة للمراقبة من الجانب التنظيمي وأدت، على الأرجح، دوراً كبيراً في دعم الثورة في الجنوب من أجل الاستقلال.
في جميع الأحوال، أدت مصر الآن دوراً كبيراً في حياة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
هناك أمثلة قليلة في الواقع تشهد على قوة نفوذ المخابرات المصرية في البلاد. وعلى سبيل المثال، سمير شحاتة مراسل وكالة الإعلام المصرية الذي يعمل جاهداً لمعرفة «من هو شيوعي». عمل جاهداً لمعرفة ذلك بشتى الوسائل وبالطرق غير المباشرة كافة. كذلك حاول مباشرةً وبإصرار أن يعرف ذلك من مراسل «تاس»، وفيما بعد من المراسلين الصحفيين لوكالة الأنباء الصينية. ومثال آخر، عبد الله باذيب الذي صرّح بأنه زاره في بيته في منتصف مايو أحمد عطية المصري، الموظف في سفارة الجمهورية العربية المتحدة، القنصل السابق في تعز. فقد ادعى أنه شيوعي وحاول اقتناص المعلومات بأسلوب غير لبق عن الماركسيين في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية. وعندما وجد أنه لم يتمكن من الحصول على أية معلومات، سأل في نهاية المطاف: هل يحصل الماركسيون المحليون على مساعدات مالية من الاتحاد السوفياتي؟ فأجابه عبد الله باذيب: لا تسأل أسئلة غبية. ولكن هذه هي طبيعة عمله لخدمة بلده، وهو لا يختلف عن بقية الدبلوماسيين الذين يعملون في اليمن وخارج اليمن في مدّ دولهم بما يستجدّ من معلومات في البلدان التي يعملون فيها، ولا شك في أن أحمد عطية المصري كان يمثل حالة أفضل بحكم معرفتي له في تعز ودار السلام (تانزانيا) وعدن، هو صاحب كتاب «النجم الأحمر فوق البحر الأحمر(اليمن الجنوبية)» الذي يُعَدّ من أهم الكتب التي صدرت عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية

عدن الغد